مفاتيح السعادة وأسباب الطمأنينة في سورة الضحى
ما ذكرت السعادة إلا ويتبادر إلى ذهني قول الله سبحانه: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، فالقرآن الكريم باب سعادة الدنيا والآخرة، وفي مخالفته والإعراض عنه تعاسة في الدنيا وشقاء في الآخرة، وهذا واضح مفصل في سورة طه نفسها، قال تعالى: ( فإما يأتينَّكم منِّي هُدًى فمن اتَّبع هُداي فلا يضل ولا يشقى* وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى) (سورة طه: 123- 124 ).
تلك كانت ثلاث آيات من سورة طه، أما من يتأمل سورة الضحى وسورة الانشراح فإنه يجد فيهما الكثير من أسباب السعادة وطرق غسل القلب من الهمّ والحزن.
في هذه السطور سنبحث عن مفاتيح للسعادة وأسرار للطمأنينة في سورة الضحى ولا عجب فسورة الضحى نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كان يعيش فيه ظرفا عصيبا، حيث كان الوحي قد أبطأ عنه، وكفار مكة يلمزون ويهمزون شامتين بتأخر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلين للنبي عليه الصلاة والسلام: "ما نرى ربك إلا قد قلاك" أي هجرك وقطع وصلك. فجاءت السورة علاجا لنفس النبي صلى الله عليه وسلم مما أصابها من الحزن والهموم.
فلنتابع كلمات السورة ولنرصد ما فيها من مفاتيح السعادة والطمأنينة:
(والضحى والليل إذا سجى):
هاتان الآيتان اللتان تتضمنان قسماً بآيتين كونيتين من آيات الله سبحانه هما الضحى والليل، لكن كذلك يمكن أن نتلمس فيهما إشارة رائعة لها صلة براحة النفس وطمأنينتها، عنوان هذه الإشارة هو(كل حال يزول ) فاستفتاح السورة بذكر الضحى والليل، تنبيه للإنسان إلى حقيقة كبرى من حقائق الوجود هي أن الدهر ليل ونهار، ظلمة ونور، فكل حال يزول، والليل وإن طال وامتد وغطى البلاد فإنه لا شك زائل، ولا بد بعده من نهار قادم، والعسر بعده يسر، والشدة بعدها فرج، فكل حال يزول، ولا شيء يستمر إلى الأبد. وفي تقديم الضحى على الليل، تنبيه للإنسان ليركز على الضحى لا على الليل، وفي ذلك تدريب له ليكون متفائلا إيجابي النظرة.
(ما ودعك ربك وما قلى):
في هذه الآية طمأنة للنبي صلى الله عليه وسلم، ونفيُ لأسباب الخوف والقلق، أن إذا كنت مهموما وحزينا خوفا من أن يكون الله قد قلاك وهجرك فليطمئن قلبك، فهذه كلمات الله تطمئنك، فليذهب عنك الخوف والقلق، فلا مبرر له ولا وجود لأسبابه، فلينقطع الشك باليقين، وليتطهر قلبك من كل أسباب الخوف والقلق، فإنه: (ما ودعك ربك وما قلى). فما أكثر ما يصيبنا الهمّ ويلبسنا الغمّ وقد نكتئب خوفا من أمور نظنها واقعة وهي ليست أكثر من هواجس وأوهام.
(وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى):
الآيتان السابقتان عالجتا مشكلة خوف الإنسان وقلقه من أمور وقعت أو يظن أنها ستقع، أما هاتان الآيتان: (وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى)، ففيهما متابعة لأسباب الطمأنينة، ومفاتيح السعادة، وطمأنة للخائف القلق مما يظن أنه قادم مما يكره من الأحداث، فما أكثر الأمور التي نخاف وقوعها ويصيبنا الهمّ والغمّ بسبب ذلك ثم لا يقع شيء من تلك المخاوف. ويقول أهل التربية: (إن أكثر ما نخاف وقوعه لا يقع).
ومتابعة لعلاج الخوف واجتثاث القلق من النفوس، لا بد من جرعة إضافية تزيد من حسن الظن بالله سبحانه، بآيات تذكر بما سلف من أيام كان الحال فيها أكثر شدة، وزالت الشدة وجاء الفرج، لنقرأ قوله تعالى:
(ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالّا فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى):
أليست أيام اليتم، وأيام ما قبل البعثة، وأيام شدة الحاجة، ألم تكن تلك أياما صعبة، ثم تغير الحال، وجاءت بعدها أيام هي خير منها، فكل حال يزول، وأكثر الأمور التي نخاف وقوعها لا تقع، وكل ما علينا هو أن نتسلح بحسن الظن بالله سبحانه.
(فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر):
يكاد يجمع أهل العلم أنه لا مجال للمقارنة بين سعادة المرء حين يأخذ وسعادته حين يعطي، فالسعادة الحقيقية هي في العطاء لا في الأخذ. والملاحظ في هذه الآيات أنها لم تطلب مجرد إطعام اليتيم، أو إعطاء السائل، إنما أمرت بحسن معاملته، فالإحسان إلى الضعفاء ورحمتهم من أبواب الدخول في رحمة الله ونيل إحسانه، فحسن معاملة الضعيف خير من إعطائه، وهي لا تتحقق بمجرد بذل المال أو الطعام، بل لا بد من حفظ كرامة الضعيف، وصون مشاعره عن الجرح، سواء بطريقة العطاء أو بالمنّ، أو بطريقة الاعتذار عن العطاء، فربّ اعتذارٍ عن عطاء هو خير من عطاء، ورب عطاء مصحوب بمنٍّ هو أكثر إيذاء للنفس من الجوع.
ولهاتين الآيتين موقع هام في رسالة السورة، من حيث بث مشاعر الرضا في النفس الحزينة، فالحزن يتبدد ويتلاشى عندما يقترب الحزين من الضعفاء والأيتام والفقراء، ويكتشف أنه ليس وحيداً في معاناته، بل هناك من يعاني مثله، وربما يجد من هم أكثر معاناة منه، وهذا باب من أبواب التسلية عند المصيبة، وسبب من أسباب راحة النفس وجلاء الحزن، وأفضل ما يكون هذا الاقتراب من الضعفاء حين يكون مقروناً بالإحسان معاملةً وعطاءً، فالراحمون يرحمهم الرحمن، والرحمة سعادة، والرحمة طمأنينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ارحموا تُرحموا..) (حديث صحيح رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو).
وفي وصيته لأبي ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم : "انظر إلى من هو تحتك ، ولا تنظر إلى من هو فوقك ، فإنه أجدر لك ألا تزدري نعمة الله عليك " . وفيها: قال صلى الله عليه وسلم: "أحبب المساكين وجالسهم ، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك " (رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك)
وعنأنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: (..يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ؛ فَإِنَّ اللهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (. حديث صحيح رواهالترمذيوالبيهقيفي ( شعب الإيمان)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ ، فَقَالَ لَهُ : ( إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ ) حديث حسن رواه أحمد.
فهل من تعاسة أشد من قسوة القلب ، وهل من سعادة أروع من أن تكون ليّن القلب في الدنيا، قريبا من رحمة الله وفضله يوم القيامة.
(وأما بنعمة ربك فحدث):
في الآيتين السابقتين رأينا أن صحبة المساكين تليّن القلب، وبسببها ينتبه الإنسان إلى فضل الله ونعمه، وعوضاً عن أن يقضي وقته بتعداد أمورٍ حُرِم منها، يصبح كثير التفكير في نعم الله عليه، فيذهب عنه الهمّ والغمّ. وانتباه المرء إلى نعم الله عليه والتفكر فيها والتحدث عنها مع النفس ومع الغير - على سبيل الاعتراف بفضل الله سبحانه – سبب لشكر الله المنعم وحمده على تلك النعم وامتثال لقوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)، وكل ذلك من مداخل السعادة، وأسباب الطمأنينة، ومن مبعدات الهمّ والغمّ والحزن عن النفس. أما غفلة الإنسان عن النعم، والتركيز على ما حرم منه من عرض الدنيا فذلك من أسباب التعاسة.
ومن طرق السعادة أن يدرك الإنسان أن الله إن أخذ من الإنسان شيئا فإنه قد أبقى له أشياء، وأن يحدث الإنسان نفسه ويتفكر فيما هو فيه من النعم، لا فيما حرم منه، وكما يقول اهل التربية: (انظر إلى نصف الكأس الملآن ولا تنظر إلى نصفه الفارغ)، فبذلك يكون أكثر إيجابية، وأكثر حمدا لله سبحانه، ويمتلئ القلب رضا عن الله، وهل السعادة غير ذلك.
ومن روائع الأمثلة على ما ذكرنا خبر عروة بن الزبير وقد ابتلي بحادثتين في يوم واحد: قُطعت رجله لمرض اصابه، ومات أحبّ ابنائه السبعة إلى قلبه بسبب رفسة فرس. فلما بلغ الخبر عروة بن الزبير قال: اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون, أعطاني سبعة ابناء وأخذ واحداً, وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحداً, إن ابتلى فطالما عافى, وإن أخذ فطالما أعطى , وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة.
فهذه آيات فيها شفاء من الهمّ والغمّ والحزن والقلق إن آمنا بها وعملنا بمقتضاها، وإن حَسُنَ ظننا بالله سبحانه. وللحديث عن مفاتيح السعادة في سورالقرآن بقية نتابعها إن شاء الله في : (مفاتيح السعادة في سورة الانشراح).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق